ممن ننصف النساء ؟؟
تخيلت ذات قهر أني أمام قاض وقور ، أجلس بقلب جسور ، ثم أقف بجرأة وبسالة ، أنشر ورقة كتبت فيها مسبقاً مرافعة تقنع العقلاء ، وتلجم الأدعياء ، ثم أقرأ :
سيدي القاضي : ها أنا ذي أقدم نفسي إليكم باسم امرأة ، أطالب بالفصل وأثق في العدل ،وأعيذكم بالله من الظلم والجهل .
سيدي : لو تعلمون ما أقاسيه في دنياي لتركتم مقعدكم الرفيع هذا ونزلتم إلى جانبي لتأخذوا بيدي وتباركوا جلدي .
صلب قضيتي يا سيدي أنني امرأة !
هكذا أراد لي الله أن أكون - ولا اعتراض لدي - فالأمر لله أولاً و آخراً ، إلا أن الظلم الذي اكتنفني ما يزال في ازدياد وتفاقم .
لقد قيدوني يا سيدي ، ثم عادوا فقيدوني ، وكلما تأقلمت على قيد واعتدت عليه نزل على عنقي قيد جديد ، ولم تزل بي القيود حتى أنه لم يعد لدي مكان للنفس .
إنهم يحاولون تكميم فمي ، والحجر على حنجرتي ، يقولون إن صوت المرأة عورة ، وإن رأيها عورة ، وفكرها عورة ، وإنها يجب أن تكون صماء بكماء ، ولا ينبغي طبعاً أن تتعلم لغة الصم والبكم لأنها تتطلب تحريك اليدين وفي ذلك ما فيه من الجرأة و الاسترجال !
لقد دمروني بفهمهم الخاطئ لتعاليم الدين فكل ما أفعله لأعبر عن نفسي يحاربونه بكلمة حرام ، وكأنهم لم يقرؤوا الأحاديث ترويها أمنا عائشة رضي الله عنها ، ولم تشنف آذانهم أشعار خناس ، ولم يسمعوا عن تجارة أمنا خديجة رضي الله عنها وأرضاها ولم ترد على أسماعهم بطولات خولة ولا رحلات أم سلمة رضي الله عنهن جميعاً !
لقد كسروني يا سيدي ، فكلما أرادوا أن يتندروا جعلوني طرفتهم ، وكلما أرادوا أن يتفاخروا أعملوا فيّ أسلحتهم ، زوجوني وأنا قاصر لم أتجاوز الثالثة عشرة من شيخ في السبعين ! طلقوني من زوج أرتضيه لأنهم اكتشفوا أن نسبه لا يكافئ نسبي بعد إنجاب أطفال ! منعوني من المطالبة بقيادة دابة هذا العصر وقد قادت جدتي دابة عصرها !
فجأة صرخ القاضي : حسبك يا ابنتي لقد أوجعتنا ، من هم أعداؤك هؤلاء حتى نأخذ لك حقك منهم ؟
نزل عليّ سؤال القاضي وكأنه صعقة لم أحسب حسابها !
صحيح ، لقد أعددت مرافعتي ، وفندت شكواي دون أن أحدد خصمي ، يا الله !
حاولت استعادة توازني واستغلال تعاطف القاضي معي وبدأت أحاول تحديد ذلك الخصم حتى ينصرني عليه ويعيد لي ما ضاع من حقوقي على يديه ، فقلت :
يا سيدي إنه الرجل ، نعم الرجل ، إنه خصمي الأول والأخير ، لقد ظلمني وكسر نفسي وحارب وجودي بما استطاعه من قوة و...
مهلاً يا سيدي ، لي خصم آخر ، إنه الأعراف والتقاليد ؛ نعم ، كلما أردت أن أتنفس رفعت سيفها في وجهي ، فهي تقتضي أن أكون كائناً خفياً لا يُسمع ولا يُرى حتى تكون هي في أمان وتبقى موفورة الكرامة لها كلمتها في الناس .
وخصم آخر سجله لديك يا سيدي القاضي إنه المجتمع ، المجتمع كله بحاضرته وباديته ، يريد أن ينظم صفوفه بدوني ، ويراني نشازاً بين تلك الصفوف ، فإن لبست ثوب البداوة رآني متخلفة لا أرقى إلى المستوى الذي يشرفه بين المجتمعات ، وإن أخذت من الحضارة سبباً قطعه واتهمني بالخروج والسقوط ، فهو متحير في أمري ، ناقم على وجودي ، متحسر على ترك وأدي بمجرد أن ولدت .
وخصم آخر وأظنه الأخير ، إنه المرأة نفسها ؛ لا تستغرب سيدي ؛ المرأة من أكبر أعداء المرأة ، ولعل الدافع للمرأة إلى معاداتي عجزها عن معاداة الرجل ، وعندما لم تستطع معاداته أرادت استرضاءه بالنيل من بنات جنسها ، المرأة يا سيدي هي أول من يجلدني إن أخطأت ، ويحسدني أن أصبت ، ويلومني إن تظلمت ، ويحتقرني إن سكت ، وهي أكبر عون لكل أعدائي السابقين للنيل مني .
لحظة يا سيدي ، لقد تذكرت خصماً آخر ، ويا له من خصم !
إنه أنا !
أنا يا سيدي كائن مسكون بالضعف ، لي لسان لا أتجرأ أن أطالب به بحقوقي ، ولي عينان لا أرى بهما قيمتي التي يجب أن أناضل من أجلها ، ولي قدمان لا يخطوان إلا إلى الخلف ليلصقاني دائماً بالجدران والزوايا ، ولي ...
لحظة يا سيدي هذا الكلام يذكرني بخصم آخر ؛ إنه تربيتي !
نعم لقد تربيت على أكون لا شيء ، على أن أنكسر للجميع ، على أن أنسحب إلى الخلف دائماً ، على أن أتحمل العقاب وأنا المظلومة ، وأصبر على اللوم وأنا المجني عليها ..
وهنا قاطعني القاضي وطرق على طاولته بالمطرقة فاهتزت القاعة كلها وقال :
اعذريني يا امرأة ، سوف أحفظ ملف قضيتك بسبب كثرة خصومك ؛ فلو فتحت تحقيقاً مع كل خصم منهم لتطلب الأمر مجمعاً من المحاكم وطابوراً من القضاة إضافة إلى مدرجات كبيرة لاستيعاب الشهود ، وحقبة من الزمن لا أعدك بتحديدها ، اذهبي لك الله .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق